حكاية عبد الله ابن المبارك مع الأيتام على طريق الحج
17 / 2 / 2017
أبو ياسر السوري 
===============
 لابن المبارك قصة طريفة ، يمكن أن يستفاد منها كثيرٌ من الدروس والعبر.. ولكن رأيت من نشرها، فزور فيها واخترع، وضمنها كلاما لا يجوز اعتقاده ، ويأثم من يرويه .. بل وجرد القصة من كل ما يمكن أن يستفاد منها .. ومما يؤخذ عليها ما يلي :
1 - هذه الرواية المخترعة لقصة عبد الله بن المبارك ، لم تكتب بأمانة ، فقد غير فيها راويها وبدل ، وزاد ونقص في الكلام . وفرغ القصة من العبرة ، بل ضمنها خرافات وأكاذيب لا تليق أن تنسب لابن المبارك .. فزعم أنه رأى امرأة أرملة جاءت تحت جنح الظلام إلى مزبلة فالتقطت دجاجة ميتة .. فسالها وألح عليها حتى باحت له بسرها . فأعطاها المال الذي كان سيحج به ولم يحج .. وهذا تغيير في القصة لم يذكره أحد من رواتها .. ولا يمكن لعبد الله بن المبارك أن يعترض امرأة تحت جنح الظلام ويكلمها ويحاورها ويلح عليها حتى تكشف له عن سرها .. فهذا فضول لا يمكن أن يقع من رجل كابن المبارك ، وهو تصرف بعيد عن أخلاق السلف .
2 - وكذلك كذب راوي هذه القصة حين زعم [ أن ابن المبارك رأى النبي في المنام وقال له : يا عبد الله أنا حبيبك في الدنيا ، وشفيعك في الآخرة .. يا عبد الله لقد أكرمك الله فخلق ملكا على صورتك ، كان يتنقل مع أهل بلدتك في مناسك الحج ، ويعلمهم مناسكهم كما كنت تعلمهم ، وقد كتب الله لك ثواب سبعين حجة بسبب برك بهذه الأرملة وأيتامها.] .
وطبعا هذه الرؤيا مخترعة ، لأنه لم يذكرها أحد ممن روى هذه الحكاية من السابقين . وكل ما ورد فيها من خزعبلات هو دجل وافتراء ، ولا يمكن أن يقع مثله لأحد ، ومثل هذا الكلام هو من الخرافات التي يخترعها بعض قصار العقول تحت مسمى الكرامة .. وابن المبارك لو قيل له ما قاله الحُجَّاج من أهل بلده ، لكذبهم ولقال لهم إنني لم أحج هذا العام ولم أفارق بلدتي ، فكيف كنتم ترونني معكم في الحج .؟؟ لعل الشيطان تمثل لكم بصورتي ليضلكم ويفتنكم بي ..
3 - ومما يؤخذ على هذه الرواية المكذوبة ، أن راويها قال " كان ابن المبارك رجلا صالحا " وسكت عن ذكر مكانته العلمية .. والاقتصار في وصف ابن المبارك على الصلاح وحده ، هو ظلم لحقيقة ، فابن المبارك ليس مجرد رجل صالح فحسبُ .. ولكنه عَلمٌ من أعلام الأمة وأحدُ كبار التابعين ، قالوا في ترجمته [ عبد الله بن المبارك هو الحافظ ، شيخ الإسلام ، المجاهد التاجر، صاحب التصانيف والرحلات . أفنى عمره في الأسفار، حاجا ومجاهدا وتاجرا وجامعا للحديث ، والفقه ، والعربية ، وأيام الناس .. كان من سكان " مرو " بخراسان، ومات بهيت (على الفرات) منصرفا من غزو الروم . وهو أول من صنف كتابا في " الجهاد " وأول من صنف في " الوعظ والرقائق .. روى عنه البخاري وأبو داود والنسائي .
وذكر القزويني في كتابه " أخبار البلاد وآثار العباد " خبر زواج والده من أمه ، التي كانت بنت  نوح بن مريم قاضي (مَرْو) بخراسان ، وأنها كانت ذات تقى وجمال ، وأن أكابر بلدة ( مرو) كان كل منهم يتمناها زوجة لولده . ولكن القاضي لم يزوجها لأحد من أعيان بلده ، وإنما زوجها من غلام له هندي كان يعمل في بساتينه ..
فقد ذهب القاضي يوماً إلى بستانه ، فطلب من غلامه الهندي شيئاً من العنب ،  فأتاه بعنب حامض .. فقال له : هات عنباً حلواً ، فاتى بحامض أيضا .. فقال له القاضي : ويحك ما تعرف الحلو من الحامض .؟ قال : بلى ، ولكنك أمرتني بالعمل في البستان ، وما أمرتني بالأكل منه ، ومن لا يأكل لا يعرف .. فتعجب القاضي من كلامه ، وقال : حفظ الله عليك أمانتك .. ثم زوجه ابنته فولد لهما عبد الله بن المبارك العالم المشهور صاحب القصة التي نحن بصدد الكلام عنها . ] .
4 - والآن إليكم ملخص الرواية الصحيحة لحكاية عبد الله بن المبارك رحمه الله التي وقعت له في طريقه إلى الحج ] :
قالوا : كان عبد الله بن المبارك عالما غنيا ، يحج سنة ، ويغزو سنة اخرى . وكان من عادته أنه إذا أراد الحج ، صحب معه نفرا من أهل بلده ، يحجون معه في قافلة على حسابه ، ويتكفل هو بمصاريفهم ذهابا وإيابا .
وفي إحدى رحلاته للحج مع أصحابه ، نزلوا منزلة  إلى جوار قرية في أثناء الطريق ، وبعدما صلوا المغرب ، أبصر ابن المبارك بنتا دون سن البلوغ ، تلم فتات الخبز وبقايا الطعام وقشور البطيخ ، وتجمعها في خرقة معها . فاقترب منها ابن المبارك ، فسألها قائلا : يا بنيتي لمَّا رأيتك تجمعين فتات الخبز ، وقشور البطيخ ، قلتُ لعلك تجمعين ذلك طعاما لبهائم لديكم .. ولكني أراك جمعت معها بقايا العظام واللحم ، فـرابني أمرك ، فما شأنك يا بنيتي .؟ ترددت الصغيرة قليلا ، ثم قالت يا عم : إن لي إخوة صغاراً ، ونحن أيتام ، يتصدق علينا الناس ، وينسوننا أحيانا فنجوع .. ولهذا أترقب القوافل المارة ، فأخرج وأجمع لإخوتي الصغار ما أعثر عليه من بقايا طعام المسافرين ، لأسدَّ به جوع إخوتي ..
فقال ابن المبارك : ألديك قريب يخصك في هذه القرية.؟ قالت : نعم ، لي عم ، ولكنه فقير أيضا مثلنا ، وهو يجوع أحيانا كما نجوع .. قال : فخذيني إليه . فالتقى بعمها ، وتأكد من صدق حكايتها .. فقال له : تعال معي لحاجة تنفعك وتنفع أبناء أخيك الأيتام إن شاء الله . فاصطحبه معه إلى مكان القافلة .. فلما وصلوا ، قال ابن المبارك لخازن ماله : كم معك الآن من النقود يا فلان ؟ قال معي كذا وكذا . قال فأمسك ما يكفينا لعودتنا إلى ( مرو) ، وأعطني الباقي .. فأخذ المال وكان وفيرا . فسلمه لعم الأيتام ، وجعله وصيا لهم على المال ، وكلفه بأن يتاجر لهم فيه ، ويحركه ، ويثمره ، ويأكل منه بالمعروف ، ويعف نفسه وأبناء أخيه من ذل الفقر والمسكنة .. ثم رجع ابن المبارك إلى القافلة ، فأخبرهم الخبر .. وقال لهم : هذا الذي صنعناه أفضل من حجنا في هذا العام ، ورجع ابن المبارك ورجعت معه القافلة ، ولم يحجوا ، وعلمهم بهذا الدرس العملي ، أن إشباع البطون الجائعة ، أفضل وأحب إلى الله من حج النافلة إلى بيته الحرام ..] .